الأرشيف الوطني يوثق ذكريات" المقيظ"

الأرشيف الوطني يوثق ذكريات" المقيظ"

أبوظبي ( أردو بوینت نتورك‎‎‎ ۔ ‎‎‎ 25 أغسطس 2019ء) اهتم الأرشيف الوطني بالتاريخ الشفاهي الذي يوثق تاريخ دولة الإمارات العربية المتحدة وتراثها المعنوي عن طريق الروايات الشفاهية وما تناقلته ذاكرة المعمرين والمخضرمين وشهود العصر، حيث وثق رحلات "المقيظ" التي ما زالت مجرياتها محفورة في ذاكرة الإماراتيين.

وللمقيظ رحلاته التي تعدّ من الطقوس المهمة التي اعتادها الإماراتيون قديماً للاستجمام بعيداً عن القيظ وشدة حرارته، وقد ارتبطت هذه الرحلات بذكريات وحكايات وقصص؛ إذ حالما كانت تلوح بوادر الصيف بحرارته العالية كان أبناء المدن في الإمارات يتجهون إلى المناطق الجبلية، والواحات، حيث النسمات العليلة والظلال الوارفة في واحات النخيل، ومياه الأفلاج العذبة وفواكه الصيف.

(تستمر)

وقد كان "المقيظ" محوراً مهماً في العديد من مقابلات قسم التاريخ الشفاهي في الأرشيف الوطني، ففي مقابلة مع الراوية رفيعة محمد الخميري من أبوظبي، قالت: كنا في فصل الشتاء نبقى في مدينة أبوظبي؛ موطننا وفيها نسكن، ولكن عندما يحل الصيف، وترتفع درجات الحرارة، كنت أذهب مع أهلي إلى رؤوس الجبال في رأس الخيمة بحثاً عن البرودة والنسيم اللطيف، وكنا نتوجَّه إليها عبر البحر؛ فقد كانت أسرتي تملك مركباً كبير الحجم /جالبوتاً/ يسمى "الحصان" وكان مصنوعاً من الخشب، وله استخدامات عديدة أخرى. وبعد وفاة أحد أجدادي أصبحنا نقضي فصل الصيف في مدينة العين، ونذهب إليها براً .

ويتذكر "المقيظ" الراوي الشاعر سالم عيد عبيد المهيري من العين، فيقول: كنا نقضي فترة الأصفري /الخريف/ في العين، وكان أهلنا يخرجون إلى البر لقضاء فترة القيظ /الصيف/ أول ما "تبشر" النخيل، ويكون أول منتوج لها، و يسمونها " البشارة"، وتكون درجة الحراة عالية، فيبدأ الناس بالذهاب إلى "المقايظ" التي تكون قريبة من النخيل؛ كمنطقة الهيلي، والمسعودي، والقطارة، و يسعون للسكن بقرب ماء الأفلاج لعذوبتها- ويأكلون من ثمار النخيل التي تعدّ قوتهم الرئيسي.

ويقول الراوي سعيد أحمد راشد مطر المنصوري من مدينة زايد في منطقة الظفرة: كنا "نقيظ" /نصيف/ في الحمرا وهي منطقة ساحلية ، وكانوا يذهبون على ظهور "الرِّكاب" /الإبل/ ليقيظوا في ليوا، في "لصفري" /الخريف/، وفي /البراد/ في فصل الشتاء يذهبون باتجاه منطقة الختم، وإلى منطقة الطف في الشمال، وهي تقع بين مدينتي: أبوظبي والعين، قبل منطقة العين، ويأكلون من التمور التي لديهم، وعندما يحلّ البرد يذهب الرجل، ويحمل حطباً من الطف، حمولة بعيرين أو ثلاثة، و"يحدر"/يدخل/ مدينة أبوظبي، ويبيعه والحمد لله رب العالمين، ويشتري بثمنه مؤونة تكفيه مدة ثلاثة أو أربعة أشهر.

وقال الراوي حمدان محمد سيف القوازية من رأس الخيمة عن رحلات المقيظ: يختلف المكان الذي نقيظ فيه في الصيف عن ذلك الذي نقضي فيه فصل الشتاء؛ فكنا نشتي /نقضي الشتاء/ في طرف الرملة، لكن كنا نقيظ قرب النخيل في الصيف، وكان بيت القيظ العريش /بيت مصنوع من سعف النخيل/، وكنا في الصيف نعتمد على زراعة النخيل للحصول على الرطب الذي نأخذه إلى دبي لكي نبيعه.

وفي كتاب /ذاكرتهم تاريخنا/ الصادر عن الارشيف الوطني توثيق لذاكرة الوطن، يتذكر سعيد أحمد ناصر بن لوتاه من دبي رحلات المقيظ فيقول: "كان موسم الغوص يستغرق قرابة أربعة أشهر في عرض البحر، وكان مصدراً رئيسياً للرزق، وكانت النساء تحضر /والحضارة: موسم جني الرطب/ إلى الباطنة وشرق رأس الخيمة وشعم، كما يذهبن ، طلباً للماء والرطب، إذ كن يذهبن فترة غياب الرجال في موسم الغوص إلى الواحات والمناطق الزراعية لجني الرطب وتخزين التمور".

وغالباً ما تتكفل النساء بالتحضير لرحلة المقيظ، وترتيباتها بسبب غياب معظم الرجال وانشغالهم في التحضير لموسم الغوص، وتتفق النساء مع الكري /صاحب الجمال، والمسؤول عن تجهيز الإبل التي تحتاجها الرحلة، ويتقاضى على ذلك أجراً، ومهنة الكري مهنة عليها إقبال كبير في موسم المقيظ/، وفي بعض المناطق تضطر بعض العائلات إلى السفر بواسطة السفن الشراعية بدلاً عن قوافل الإبل، بسبب كثرة المواد والمؤن والهدايا التي يحملونها معهم في رحلة العودة من المقيظ.

ويوثق كتاب /ذاكرتهم تاريخنا/ عن رحلات المقيظ ما قالته الدكتورة عائشة على أحمد بن سيّار من الشارقة: "في أيام الصيف /المقيظ/ كنا ننتقل إلى المصايف في رأس الخيمة حيث الجو أقل حرارة، وبها ماء أكثر، ومزارع للنخل واللوز، والليمون وبعض الخضراوات. كان الأهل يذهبون قديماً إلى مزرعتنا الكبيرة في منطقة شمل فوق برأس الخيمة بالبحر حيث كان محمل الزعابي يأخذ المصطافين من الشارقة إلى رأس الخيمة ويعود بهم بعد فترة الصيف، وبعد ذلك كانوا ينتقلون في سيارات أغلبها من ماركة اللاندروفر، وكثيراً ما كانت تتعطل فيحركونها بقضيب حديدي يسمى الـ "هَنْدَلْ" /وهو المقبض باللغة الإنجليزية/، وكانوا يسيرون حين جزْر الماء كي يسيروا بمحاذاة السيف /الساحل/ بعيداً عن الرمال حتى لا تغرز /تعلق/ فيها السيارات".

وتتزامن رحلة المقيظ مع رحلة الغوص في أشهر الصيف حيث يشدّ الرجال أشرعة السفن للدخول إلى البحر بحثاً عن اللؤلؤ، فيما تتولى النساء شؤون رحلة المقيظ.

وثق كتاب "ذاكرتهم تاريخنا" ذكريات عبيد راشد أحمد بن صندل آل علي الذي قال: "... وفي فصل الصيف تذهب النساء إلى المزارع، والرجال يذهبون إلى الغوص، فيأخذ الغيص القواضة / المقدم المالي الذي يدفعه ممولو سفن الغوص ويستخدم لشراء مستلزمات أسرهم في فترة غيابهم/ يتقاسمها الرجل مع أسرته فيعطيهم ما يشترون بها حاجاتهم من المأكل والملبس، ويأتيهم بدوي فيسترزق منها عندما يتعاقدون معه فيدفعون له منها مقابل الجِمال التي تقلهم ومتاعهم إلى عُمان أو ليوا، ويحصل صاحب المزرعة التي يقصدونها على نصيب منه أيضاً، ففي حين يحضر المسافرون أمتعة ومأكولات يكون لدى صاحب المزرعة الرطب والحمضيات والهمبا /المانجو/ وغيرها، فعاشوا حياة تكاملية في الواحات التي قصدوها".

ولما كانت الحياة في الماضي مختلفة تماماً عما هي عليه الآن فقد كان أبناء الإمارات يعتمدون في طعامهم على ما تجود به الطبيعة، ولذلك كانوا يستفيدون كثيراً من رحلات المقيظ حيث يمضون صيفهم تحت ظلال النخيل وقريباً من الفاكهة، وأفلاج وينابيع المياه العذبة.

وتعد واحات مدينة العين الخضراء من أشهر مقايظ الإمارات قديماً؛.. وتحمل ذكريات الراوي راشد سيف بالحايمة الظاهري من بدع بنت سعود في مدينة العين أن الناس يفضلون العيش قرب المزارع والنخيل، وكان نصف البدو يقضون الصيف في المدينة، والنصف الآخر يقضيه في البر، ويتبادلون الأدوار، فمن كان يقضي الصيف في البر وكان بحاجة لمن يعتني بحلاله فإنه يتركه في عهدة الآخرين لرعايته مدة ثلاثة أشهر في فترة الصيف، ويتقاضون مقابل تلك البهانس /مبلغ نقدي زهيد/ ولما يكون الاصفري /الخريف/ وينتهي موسم جني الرطب يستخدم ذلك المبلغ لسد حاجاتهم الضرورية وتوفير المؤونة.

ومع النعم التي حبا بها الله دولة الإمارات انحسرت رحلات المقيظ، مبشرة بتطور الحياة ورفاهيتها؛ إذ ظهرت وسائل التبريد التي خففت حرارة الصيف.

أفكارك وتعليقاتك