أبتعد اليوم عن روايات الأوبئة إذ متى يحضر ماء الواقع يبطل التيمم في الخيال – كاتب لبناني

أبتعد اليوم عن روايات الأوبئة إذ متى يحضر ماء الواقع يبطل التيمم في الخيال – كاتب لبناني

( أردو بوینت نتورك‎‎‎ ۔ / سبوتنيك - 06 مايو 2020ء) سلمى خطاب. لطالما كان انتشار الأوبئة وما يصاحبه من تغيرات استثنائية وطارئة على المجتمعات وحياة الناس أمرا ملهما للكتاب والأدباء على بداية مشاريع كتابية وأدبية جديدة، مثل الحب في زمن الكوليرا للروائي الكولومبي، غابرييل غارسيا ماركيز، أو الطاعون للفرنسي ألبير كامو أو ودفتر أحوال الطاعون للكاتب الإنجليزي لدانييل ديفو وغيرها من الأعمال تعد من الكلاسيكيات في تاريخ الأدب حاليا، اتي انتشار فيروس كورونا المستجد (كوفيد -19) حاليا وتحوله إلى وباء عالمي ليعيد إلى الذاكرة هذه الأعمال الأدبية التي تناولت الأوبئة، ويثير تسا�

�لات حول رؤية الكتاب والأدباء الحاليين لهذه الظروف وإلى أي مدى تلهمهم بكتابة أعمال جديدة​​​.

(تستمر)

ويقول الكاتب اللبناني، محمد طرزي، في مقابلة مع وكالة سبوتنيك، إن "ما نعيشه اليوم أقرب إلى الخيال منّه إلى الواقع، لأنّنا لم نتوقّع مطلقًا أن تجيء لحظةٌ تتوقّف فيها الحركةُ المحمومة للكوكب دفعة واحدة. عندما كنّا نسمع عن أوبئة أودتْ بحياة الملايين من البشر، كنّا نعتقد أنّ ذلك يعود لحقبة موغلة في القدم، لا تمتّ بصلة للعالم الذي نعيش فيه، حيث تبهرنا شعلة العلم، يومًا بعد يومٍ، بقدرتها الهائلة على إضاءة أكثر الأمكنة ظلامًا".

وأردف "لذلك يتفشّى وباء كورونا بتلك السرعة، فيما يقف العلماء والأطباء عاجزون أمام انتشاره المباغت، يعدُّ صدمة كبيرة، لا تجعل من الحدث نفسه غيرَ واقعي، بقدر ما تحملنا على الاعتقاد بأنّنا لم نكنْ واقعيّين حين اعتبرنا أنّ الإنسان قادر على التصدّي بسهولة لمثل تلك النّوازل".

ويوضح طرزي أن الأوبئة كانت دائما حافزا للأدباء والكتاب، حيث يقول "لطالما كان تفشّي الأوبئة، بما يحفرُه من ألمٍ وقلق وجوديّ، ملهمًا للأدباء، بدءًا من دانييل ديفو، وصولًا إلى أمير تاج السر. بعضهم حفر عميقًا في الوباء نفسه، وبعضهم قدّمه إطارًا عامًا لنصّه الأدبي. بهذا السياق، فإن النازلة الحالية لا تملك إلاّ أنْ تلهم الكاتب وتؤثّر في أدبه بشكل أو بآخر".

لكنه يعود ويشير إلى أنه يميل إلى كتابة الروايات التاريخية فلهذا السبب قد لا يكتب عن زمن الكورونا، إذ يقول "شخصيًّا قد لا أكتب عن زمن الكورونا، على اعتبار أنّ كتاباتي تأخذ مسافة زمنيّة عن الحدث، بذلك أعرف مداه وخفاياه، قبل أن أقاربه أدبيًّا. ولكنْ هل يمكن مثلًا أن أتطرّق إلى تفشّي الجُذام في رواية تاريخيّة قادمة، من دون أن يكون لما أعيشُه وأشاهده اليوم تأثير خفيّ على هواجس وانطباعات شخصيّات الرواية؟"

وحول كيفية قضاءه لفترة العزل المنزلي، يقول طرزي "شخصيًّا أنا مُعتاد على العُزلة؛ تلك العُزلة التي يختارها الكاتب بملء إرادته، سواء بغية الركون إلى نفسه أو بهدف التفرّغ لمشاريعه الأدبيّة، لكنّ العزلة تفقد رونقها عندما تصبح حَجْرًا أو عزلًا إجباريًا. صحيحٌ أنّ الوقت المتاح قد يكون نفسه في كلتا الحالتين، بيْد أنّ ما يشهده العالم من مآسٍ، في الحالة الراهنة، قد لا يمنحنا ترف النأي بأنفسنا عن تداعيات ما يجري. لذلك أجدني اليوم أقلّ عزلة من أي وقت مضى، ومع ذلك لا أملك إلاّ أنْ ألوذ بالقراءة وفي بعض الأحيان بالكتابة والعمل على مسودّات روائيّة".

ويلفت طرزي في حديثه إلى الصور الصادمة التي تسبب في ظهورها انتشار الوباء، حيث يعتبر أن "أكثر الصور صادمة هي تلك التي تنقلها الشاشات عن مدن عملاقة خالية من مظاهر الحياة، بعدما كانت، حتى الأمس القريب، تعجّ ساحاتها وشوارعها بالمواطنين والسُّياح. كذلك المشاهد المرعبة لمرضى لا يجدون أسرّة في مستشفيات أكثر الدول تقدّمًا، ما يطرح علامات استفهام كبيرة حول مفهوم التقدّم نفسه. ناهيك عن إغلاق الحدود، وتحوّل المدن إلى جزر معزولة، تعيش فيها كائنات بشريّة ترتاب من بعضها البعض؛ فلا مصافحة، ولا تربيتة على كفّ، ولا احتضان قد نكون في أمسّ الحاجة إليه".

ويردف الكاتب اللبناني "خرجتُ ذات مساء من أيام الحجر الأولى إلى الطرقات متفقّدًا، فلم أجد سوى القطط والكلاب الشاردة. كنت كمن يجول في مقبرة، أمشي محاصرًا بصمت مطبق، لا يخترقه غير صوت مذياع البلديّة، وهو يدعو الناس للبقاء في منازلهم. أمام ذلك المشهد الوجداني، وجدتُني عفوًا أردّد قصيدة "الكوليرا" لنازك الملائكة؛ تلك القصيدة المُوجعة التي لم يمكن بالإمكان التماهي بصورها لولا التجربة القاسية التي نمرّ بها".

ويرى طرزي أن العالم سيشهد تغيرات جذرية وتداعيات خطيرة بعد انتهاء الوباء، حيث يقول "إنّ من أخطر تداعيات الوباء حتى هذه اللحظة هو نجاح دول شموليّة في احتوائه، مقابل إخفاق جليّ للدول الديمقراطيّة. وقد أُوعزَ ذلك إلى استخدام بعض تلك الدول لتقنيّات وتطبيقات تكنولوجيّة تنتهك خصوصيّة الأفراد، فهل سيمهّد ذلك لتقبّل فكرة انتهاك الخصوصيّة الفرديّة، بذريعة الأمن الصحي الجماعي، حتى في الدول الديمقراطية نفسها؟"

ويتابع " ثمّ ماذا عن إغلاق الحدود ورفع الحوائط أمام بعض الشعوب؟ هل يكرّس الخوفُ من موجات لاحقة للوباء تلك السلوكات؟ فيُوظفُ الوباءُ، على طريقة توظيف "ماركيز" للكوليرا في روايته الشهيرة، عندما طلب من قبطان سفينته رفع علم الوباء الأصفر، بغية تهجير الركاب، للاختلاء بحبيبته؟"، ويوصل "كذلك بدا جليًّا انزواء الولايات المتحدة الأميركية خلف المحيط الأطلسي، وتخلّيها عن أوروبا، مقابل اندفاع صينيّ للمساعدة. فهل يفرز ذلك تحالفات عالميّة جديدة؟ ثم هل تمضي الولايات المتحدة الأميركية قدمًا في تحميل الصين مسؤولية انتشار الوباء، مع ما يستتبع ذلك من نزا�

�ات وصراعات يصعب التكهّن بنتائجها".

أما التغيرات التي قد يشهدها العالم على المستوى الاجتماعي فيقول طرزي إن "الوباء فرض علينا أنماطًا اجتماعية كنّا نمارسها بتردّد قبل انتشاره؛ مثل التعلّم والعمل وعقد الاجتماعات عن بعد. أخال أن هذه السلوكات سوف تتكرّس في المرحلة المقبلة، حتى تصبح نمطًا سائدًا في العديد من المجالات".

وفيما يخص الكتب التي يعكف على قراءتها هذه الأيام، يقول طرزي "أطالع كتبًا ودراساتٍ حول تاريخ العرب في شرق أفريقيا، في سياق  مشروعي الأدبي المتمثّل في "ثلاثيّة الحلم الأفريقي". في الرواية، أقرأ بمتعة كبيرة رواية "كلّ الأشياء" لبثينة العيسى، "وشرفة العار" للكاتب الكبير ابراهيم نصرالله. أبتعد قدر المستطاع هذه الأيام عن الروايات التي تقارب الأمراض والأوبئة. إذْ متى يحضر ماء الواقع يبطل التيمّم في الخيال".

جدير بالذكر أن محمد طرزي كاتب وروائي لبناني، درس الاقتصاد والقانون في كلية لندن، وصدرت له 6 روايات تأخذ أغلبها الطابع التاريخي.

وفاز طرزي بجائزة غسان كنفاني عام 2017 عن روايته جزر القرنفل، وفِي عام 2018 فازت روايته "نوستالجيا" بجائزة توفيق بكار للرواية.

أفكارك وتعليقاتك